رغم التقدم الرهيب في العلوم والمعرفة الكونية خلال القرون الخمسة الماضية، وتغير صورة الكون التي اعتقدها الإنسان، فمن أرض مسطحة إلى أرض كروية، ومن أرض ثابتة إلى أرض تدور حول نفسها، ومن أرض كمركز للكون أصبحت الأرض تدور حول الشمس، ومن الشمس كمركز للكون أصبحت الشمس نجم صغير من حوالي 100 مليار آخرين في مجرتنا درب التبانة، ومن كون ثابت إلى كون يتمدد أو ربما سوف يتقلص، فما زال العلماء حتى الآن يعلمون القليل عن الكون وتركيبه ونشأته ومصيره.
عندما بدأت الثورة العلمية في أوربا منذ حوالي خمسة قرون، مستمدة جذورها من الحضارات الإغريقية والعربية والفارسية، بدأ في نفس الوقت تحرر العلماء من آثار السلطة الدينية وأفكار وحكمة الكتابات القديمة التي لم تخضع للتجارب. وهذا التوجه العقلاني والعلمي أدخل العلم في السببية أو ما يسمى بعصر التنوير أو النهضة، حيث طبق العلماء الفكر العقلي والملاحظة الواعية والتجارب لحل المسائل المختلفة ومنها تفسير الكون.
في هذا الوقت جاء الفلكي البولندي نيقولا كوبرينكوس (1473 - 1543م) الذي رفض فكرة الأرض مركز الكون كما وضعها بطليموس في القرن الثاني الميلادي، فبيّن كوبرينكوس أن الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس في كتاب نشره في عام 1543م والذي يعتبر بداية الثورة العلمية في أوربا، ومنعت الكنيسة الكاثوليكية كتبه من التداول وكفرته.
وظلت اكتشافاته غير معترف بها حتى جاء العالم الألماني يوهانس كبلر (1571 - 1630م) والإيطالي جاليليو جاليلي (1564 - 1642م)، فاكتشف كبلر بواسطة قياساته الدقيقة أن الكواكب تدور حول الشمس وذلك في مدارات ليست دائرية ولكن إهليلجية (بيضاوية). أما جاليليو فاستطاع عبر مشاهداته بواسطة التلسكوب إثبات صحة نظرية كوبرينكوس التي أصبحت في آخر القرن السابع عشر الميلادي معترف بها من أغلب الفلكيين.
وقد أعطت اكتشافات جاليليو وكبلر الأساس للعالم الإنجليزي إسحق نيوتن (1642 - 1727م) في عام 1665م لوضع نظرياته عن الجاذبية الكونية التي اعتبرها تمتد في كل الكون، وأكد أن الأشياء تنجذب لبعضها بقوة معروف مقدارها، وأن القمر مشدود في مداره بسبب قوة جاذبية الأرض له. وبيّن نيوتن أن الطبيعة محكومة بقوانين أساسية، ولا تزال قوانين نيوتن سارية على معظم الظواهر اليومية حتى اليوم وهي ما تسمى الميكانيكا الكلاسيكية.
منتهى معارفنا عن الكون
وفي عام 1900م استطاع الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (1858 - 1947م) أن يفاجئ الأوساط العلمية عندما أعلن أن طاقة الموجات الضوئية تقفز بصورة غير متصلة، وأنها مكونة من "كم" من الطاقة. وهكذا وضع بلانك أساسيات نظرية ميكانيكا الكم التي كان لها دور خطير في فهم طبيعة المادة، وفي تفسير بناء الذرة.
وفي عام 1915م استطاع العالم المشهور الألماني الأصل ألبرت أينشتاين (1879 - 1955م) صياغة نظرية النسبية العامة التي غيرت نظرتنا إلى الكون. وهذه النظرية تسمح بالتواء الزمان والمكان بتأثير الجاذبية الذي لا يؤدي فقط إلى انحناء مسار الأجسام، ولكنه أيضا يؤدي إلى انحناء الضوء نفسه.
التواء الزمان والمكان بتأثير الجاذبية
ومن انحراف الزمان والمكان بتأثير الجاذبية ظهرت فكرة الثقوب السوداء التي تحدث عند انهيار نجم، حيث ينضغط ويتداخل بفعل قوته الجاذبة حتى تكون كل مادة النجم قد انضغطت في نقطة ذات كثافة لا متناهية تسمى نقطة التفرد. وأي شعاع ضوء أو أي جسم يقترب من حدود الثقب الأسود، يسحب دون هوادة إلى مركز الثقب الأسود.
وإذا طبقت نظرية النسبية العامة على المقياس الكبير كالأجرام السماوية ونظرية ميكانيكا الكم على المقياس الصغير كالجسيمات تحت الذرية في شرح تكوين الكون فسوف تكون النتيجة، إذا صحت النظريات أن نشأة الكون كانت كما يأتي:
تمدد الكون
فمن حوالي 15 مليار سنة وقع الانفجار العظيم. ذلك الانفجار الذي حدث لنقطة مادية في حالة انضغاط شديد وحرارة عالية جدًّا تُدعى نقطة التفرد. وتمثل بداية هذا الانفجار لحظة ميلاد الكون الذي أخذ بعدها في التمدد والاتساع، وما زال حتى الآن.
بعد دقائق من الانفجار العظيم تشكلت أولى النوى الذرية، ثم مضت أكثر من مائة ألف سنة قبل أن تظهر الإلكترونات تمهيدًا لتشكيل ذرات كاملة. وبعد مليون سنة تحول الكون إلى بحر من غازات الهيدروجين والهيليوم، وأصبح يتميز بمناطق ذات كثافة عالية، وأخرى منخفضة، واضعًا بذلك حجر الأساس لظهور المجرات والأنظمة النجمية بعد حوالي مليار سنة من الانفجار العظيم.
ومن المحتمل أن يواصل الكون تمدده إلى الأبد أو أن يتوقف عن التمدد تحت وطأة قوى الجاذبية بين مختلف أجزاء المادة الكونية، كي تواصل تلك القوى تأثيرها على الكون وترغمه على التقلص حتى يعود، كما بدأ أول مرة مندمجًا بكل مادته في نقطة مادية مفردة، فيما يسمى بالانسحاق العظيم.
وتنبئنا نظرية النسبية العامة بأن العامل الذي سوف يقرر أيًّا من هذين الاحتمالين سيتحقق هو مقدار المادة التي يحتويها الكون. وبتعبير آخر فإن الكتلة الكلية لمادة الكون هي التي ستحدد مصيره.
تساؤلات حديثة
هذه هي الصورة الحديثة للكون بعد 500 سنة من بداية الثورة العلمية، ولكن قياسات الكون الحديثة في السنوات الأخيرة بدأت في إلقاء تساؤلات جديدة قد تغير هذة الصورة تمامًا.
وقد بينت القياسات الحديثة أن الكون يتكون من حوالي 90% من مادة معتمة التي لا تشع ولا يمكن قياسها حتى الآن. وحسب تقديرات العلماء يضم الكون المنظور حوالي 100 مليار مجرة، وكل مجرة تحوي على الأقل 100 مليار نجم، ولكن هذا كله لا يشكل سوى حوالي 10% من الكتلة المفترضة للكون.
وقد جاءت الأدلة على وجود المادة المعتمة من دراسة الحركات الدورانية للنجوم حول مركز المجرات التي تنتمي إليها، ويمكننا استنتاج كمية المادة الموجودة داخل مجرة ما عن طريق قياس سرعات دوران نجومها؛ ولأن قوة الجاذبية تتناقص مع مربع المسافة، يفترض أن نحصل على سرعات أصغر كلما ابتعدنا عن مركز المجرة.
ولكن الفلكيين وجدوا أن النجوم الطرفية تدور بسرعات أكبر من المفترضة، مما أدى بهم إلى استنتاج كتلة المجرة أكبر مما نراه. وتنبئنا نظرية النسبية العامة بأن العامل الذي سوف يقرر استمرار تمدد الكون أو تقلصه في الانسحاق العظيم يعتمد على الكتلة الكلية لمادة الكون. وحتى الآن لا يعرف العلماء ما هي طبيعة تكوين المادة المعتمة.
ومعنى هذا أننا بعد خمسة قرون من الاكتشافات المدوية لا نكاد نعرف شيئًا عن الكون. منذ عصر النهضة انتهى كل قرن بانطباع أن العلم وصل إلى نهاية بحثه. ففي نهاية القرن الثامن عشر بدا أن القوانين نفسها تحكم الظواهر الأرضية والفضائية بحسب علم الميكانيكا الكلاسيكية، وكأن ذلك حلّ أهم الأسئلة المعروضة، غير أن اكتشافات نظريات النسبية العامة وميكانيكا الكم جاءت لتقلب فهمنا عن الكون. إننا ما زلنا بعيدون عن شرح كل شيء متعلق بالكون، بل وإننا ندخل الألفية الثالثة ونحن في حالة جهل شبه تام عن الكون الذي نعيش بداخله.